مؤسسة الشرق الأوسط للنشر العلمي
عادةً ما يتم الرد في غضون خمس دقائق
إن أطروحة التغيير التي قدمها الإمام الصدر هي أطروحة تقوم على الرؤية الكونية الدينية، وعلى ثنائية المادة والروح، والتفاعل الإيجابي بين هذين البعدين المادي والروحي، وبناء عليه فإن هذه الأطروحة شاملة لجميع الأبعاد الوجودية لدى الإنسان، فهي لا تهدف إلى التغيير في الأبعاد المادية لتهمل أبعاده المعنوية، ولا تبغي التغيير في أبعاده المعنوية لتهمل المادية منها، وإنما تهدف إلى التغيير الشامل في مختلف الأبعاد الوجودية وفي مختلف الميادين من اجتماعية وثقافية وتربوية واقتصادية وسياسية وغيرها من الميادين، بحيث لا يُهمل أي بعد، ولا ينجو أي ميدان من ميادين الاجتماع الإنساني من أن تمسه يد التغيير نحو الأفضل. إن أطروحة التغيير عند الامام الصدر تؤسس لمفهوم في التنمية الشاملة والمستديمة والتي تحمل توازنها وتكاملها وقدرتها على النفاذ إلى الأعماق الوجودية للإنسان، إنه مفهوم يحمل فرادته وتميزه عن مفاهيم التنمية ومعاييره المتداولة، كونه يرتكز على أسس الدين ورؤيته الكونية للوجود والإنسان والحياة وعلى منظومة مفاهيمية قادرة على توليد طاقة خلاقة للتغيير وأهدافه. حيث يشكو الإمام الصدر تخلُّف مجتمعنا المسلم على مختلف الصعد من الإنتاج إلى الأخلاق. ويؤكد أن الواقع غير ما أراد الله الذي أراد لنا العزة، يقول سبحانه وتعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). طبعًا لا يعترف أن يكون كل بلد إسلامي متأخّرًا في العالم، بل توجد في العالم مناطق مختلفة وبأشكال مختلفة، متقدمة ومتأخّرة لا ترتبط بنوعية الدين وعدم التدين. يعد الإمام الصدر أنّ محنة العصر، ومشكلات المجتمعات المعاصرة، هي في حسبان العطاء إنتاجًا ماديًا، وأنّ الإنسان آلة تعطي كمية من الطاقة المتحولة إلى العمل لمجتمعه. ونسينا أنّ الأكثر أهمّية من هذا وذاك، ممارسته للقيم وبناؤه الترابط الذّاتي بين الفرد والفرد، وبين الحاضر والماضي، الإيمان بالقيم والالتزام بالمطلقات. ويرى الإمام الصدر، أن التّصدّي لهذه المشكلات بإجراءات تربوية واجتماعية تبدأ من الأسرة، وصولًا إلى رجال الدين، مرورًا بباقي الهيئات والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ان الركائز الثوابت لكل ثقافة هي القيم، فاذا كانت القيم الحية المحركة هي القيم الفردية والعشائرية (القبلية) التي لا تأخذ بعين الاعتبار حاجيات المجتمع والجماعة، وكانت معادية للتغيير والابداع والتطور وتحول دون الاجتهاد والانفتاح والحوار، إذا كانت هذه القيم لا تخدم حقوق الانسان وكرامته، فإنها لا تكون ثقافة نابعة من الاسلام ولا معبرة عنه، لأنها تؤدي الى تفسخ المجتمع وتخلفه، والى ضعف الدولة وانحلالها، والى تقييد البشر بالقيود والاغلال. إن ميزة الثقافة الاسلامية في كل عصر وزمان هي أنها تدعو الى الوحدة والحوار والتقدم في مختلف مجالات التطور العقلي، وتتمثل كل جديد وكل معرفة وتعتبر ذلك سبيلاً الى الله تعالى وما لم تنشد الثقافة ذلك، فإنها لن تكون ثقافة اسلامية حقيقية. "الثقافة الإسلامية تحرّك الإنسان حركة دائمة نحو التقدم في مختلف مجالات التطور العقلي، وتتحمل كل جديد وكل معرفة بقلب مشتاق، وتعتبرها سلوكاً الى الله ومعرفة له وكمالاً للإنسان. والمعرفة هذه غاية خلق الإنسان وكمال مطلق له. فالسير نحوها واجب وعبادة، وكمال". حيث يبدي الإمام الصدر قابلية على الانفتاح الثقافي على الآخر، ولكن بشرط أن يكون هذا الانفتاح محققاً للرسالة المجتمعية الكبرى للإنسان. "إنَّ الدراسات والمطالعات في مختلف الحقول الثقافية تنطلق في عالم رحب واسع وتحتفظ بإطاره الرباني الثَّابت الذي لا بدَّ منه في الحياة". ويضيف الإمام، رابطاً في هذا المجال بين ما هو أساسيَّة الحريَّة في وجود الإنسان وما هو علم ومعرفة؛ فيقول: "حرية الإرادة مُهيَّأة للإنسان لا فضل له بها، بل الفضل كله أن يختار الخير، وهذا طريق لا يمكن السير فيه إلا بالعلم الذي هو العنصر الأصيل في تكوين خليفة الله في الأرض". ومن هذا المنطلق يمارس الإمام انفتاحا فكرياً على الآخر، ويبدو هذا الانفتاح جلياً من خلال قول الإمام:" إن الإسلام يرحب بكل حركة فكرية إيجابية وكل تطوير عقلي سليم، ويعتبر كل هذا جزءاً من رسالة الإنسان في الحياة وواجباً من واجباته".